2020 السنة الاستثنائية، والتي حملت معها تحولًا جذريًا في الحياة البشرية على مستوى العالم. جائحة كوفيد-19 فرضت واقعًا جديدًا على المجتمعات، غيرت مفاهيم التواصل الاجتماعي، العمل، والتعليم، وحتى الفن. في ظل العزلة، والقيود على التنقل، وزيادة الاعتماد على الوسائل الرقمية في الحياة اليومية، أصبح الفضاء الإعلامي ساحة جديدة للنقاش حول السلطة، الحقيقة، والسيطرة على الأفكار والمعلومات. في نفس العام أنجز يوسف عساف فيلم تخرجه من مدرسة الجيزويت (ع الهوا).

ع الهوا ، فيلم التخرج من مدرسة الجيزويت للسينما بالإسكندرية الذي أخرجه يوسف عساف، هو أكثر من مجرد فيلم تخرج من دورة لتعليم أساسيات وتقنيات صناعة الافلام، بل دراسة فلسفية مكثفة للعلاقة بين السلطة، الإعلام، والجسد. في إطار بصري مشحون يأخذ الفيلم مشاهده في رحلة تقطع عمق العلاقة بين المواطن والنظام، بين الجسد كمساحة مقاومة والسرديات التي تحيطه. القصة، التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، تتناول طبيبًا فقيرًا يُدعى إلى برنامج تلفزيوني ليتحدث عن حقيقة مياه ملوثة تتسبب في اختفاء من يشربها.

إلا أن المعضلة الأخلاقية التي يواجهها تمتد إلى مستويات أبعد: هل يلتزم بالكشف عن الحقيقة مهما كانت التكلفة، أم ينصاع للتهديدات وللحوافز المادية لتأمين مستقبل ابنته؟ هذه الإشكالية تفتح الباب لتحليل فلسفي عميق لهيمنة السلطة على السرديات، الأجساد، والعلاقات الاجتماعية.

من البث إلى الهيمنة

قصة الفيلم تدور حول الدكتور الذي يعيش بين معاناة شخصية وقضية عامة. الصراع الداخلي الذي يعانيه البطل، بين حاجته المادية الملحة والضغط الأخلاقي لإعلان الحقيقة، يجسد صراعًا وجوديًا يعانيه كثيرون في المجتمعات المحكومة بالفساد والتضليل. اختياره في النهاية أن يشرب الماء الملوث أمام الجميع ويتلاشى، هو بمثابة فعل احتجاج نهائي ضد نظام يرفض الاعتراف بالحقيقة، تركز الحبكة على حدث واحد خلال يوم واحد، لكنه مشحون بأبعاد هائلة. البرنامج التلفزيوني يقدم في الفيلم صورة متقنة لآلية السيطرة على السرديات حيث المذيع، بشخصيته الفجة وأسلوبه الاستعراضي الركيك، ليس مجرد شخصية فردية، بل يمثل آلة إعلامية ضخمة تهدف إلى إنتاج "حقيقة بديلة" تخدم أهداف السلطة. فطريقة تقديمه للمعلومات، القائمة على التبسيط والتضليل، تجعل منه سلاحًا لنشر وهم الاستقرار المزيف. في هذا السياق، يصبح البرنامج أداة فعالة في خلق مجتمع يستعرض صورته بدلًا من مواجهة واقعه.

اختيار المونتاج السريع والمتدفق في لحظات خطاب المذيع يُعزز هذا الإحساس، الإيقاع المتسارع والصور المتتالية تعكس توتر المذيع الداخلي، والذي يحاول إخفاءه خلف قناع اليقين، الكاميرا تلتقط حركاته المتوترة والافتعال المبالغ فيه، لتبرز كيف تُصبح الفوضى الداخلية جزءًا من الاستعراض الإعلامي وفي الخلفية يلعب شريط الصوت دورًا محوريًا؛ حيث صوت المذيع المهيمن بفجاجة، يتداخل مع الأصوات الأخرى بشكل قسري، وكأنه يسكت كل ما سواه.

الجسد فضاء للصراع و الصورة أداة سلطة و احتجاج

يتعامل الفيلم مع جسد الدكتور كمساحة للسيطرة والمقاومة في آنٍ واحد، الكاميرا تتلاعب بالزوايا لتضعه دائمًا في إطار يبرز حصاره النفسي والجسدي، وكأن النظام بأكمله يُمارس عليه ضغطًا متواصلًا، فمن ذلك المشهد الذي نراه فيه، وهو يتلقى تهديدًا عبر الهاتف أثناء قيادته السيارة، إلى المشهد الذي يُجبر فيه على الخضوع لعملية المكياج قبل الظهور على الهواء، يبدو جسده محاصرًا.

الصورة في ع الهوا ليست مجرد وسيط بصري، بل أداة تُستخدم لإعادة تشكيل الواقع. تصميم الاستوديو التلفزيوني البارد، وإضاءته القاسية، وديكوره المجرد، كلها تجعل من البرنامج مساحة لفرض الهيمنة. هذا التحكم الدقيق في الصورة يمتد إلى المشاهد الخارجية، حيث يُظهر الفيلم العالم المحيط بالدكتور كفراغ قمعي، يفتقد لأي أمل بالخلاص.

لكن الفيلم يُقلب هذه العلاقة في المشهد الأخير. عندما يشرب الدكتور الماء ويختفي، يتحول جسده إلى أداة للاحتجاج. هنا، تتحدى الصورة وظيفتها كأداة للسيطرة، وتُصبح لحظة التلاشي بيانًا ضد النظام بأكمله. الصورة، التي كانت تُستخدم لإعادة إنتاج الهيمنة، تُعيد اكتشاف قدرتها على الفضح. يمتد الفيلم إلى طرح أسئلة حول العلاقة بين المواطن والمنظومة الصحية. المياه، التي تُعتبر مصدرًا للحياة، تتحول إلى أداة للسيطرة، وعدم قدرة الدكتور على تأمين مياه نظيفة لابنته إلا من خلال الامتثال للسلطة يعكس كيف تُعاد صياغة العلاقة بين الإنسان واحتياجاته الأساسية كآلية لإخضاعه. الجسد هنا ليس فقط مُستهدفًا بالعقاب، بل يُعاد تشكيله ليُصبح خاضعًا لمنطق السلطة.

المفارقة في أن المياه التي يشربها الدكتور مأخوذة من حوض سمك صغير تُضيف طبقة أخرى من الدلالة؛ الحياة التي يفترض أن تكون بسيطة وطبيعية تُصبح مليئة بالمخاطر، حتى في أبسط أشكالها. هذا الاختيار الفني يُبرز هشاشة العلاقة بين المواطن ومنظومة صحية تم تصميمها لتكريس الهيمنة بدلًا من تقديم الرعاية.

الصراع بين الواقع والاستعراض و العقاب كهيمنة ناعمة المواجهة بين الدكتور والمذيع هي قلب الفيلم، حيث يتم تصويرها كمسرح للصراع بين الحقيقة والزيف. الحوار بينهما يُظهر كيف تتحول اللغة إلى أداة للسيطرة، وكيف تُستخدم العبارات المبهمة والمراوغة لطمس الحقائق. لحظات الصمت الطويلة بين جمل الدكتور تتناقض مع تدفق كلمات المذيع السريعة، وكأنهما يمثلان زمنين مختلفين؛ زمن التأمل وزمن العرض.

شريط الصوت، الذي يطغى عليه صوت المذيع، يُعيد إنتاج هذا الصراع بشكل سمعي. الصوت هنا ليس مجرد عنصر فني، بل أداة قمع تُحاول إغراق الحقيقة وسط ضجيج الاستعراض.

السلطة في الفيلم لا تُمارس السيطرة عبر العنف المباشر، بل من خلال إعادة تشكيل الخيارات المتاحة. تهديد الدكتور بحرمانه من المكافأة المالية، وحرمانه من إمكانية تأمين مياه نظيفة لابنته، يُظهر كيف تُدار المجتمعات الحديثة بمنطق العقاب غير المباشر.

هذا العقاب لا يُظهر نفسه كعقاب، بل يُعاد تقديمه كاختيار؛ إما أن يمتثل الدكتور لخطاب السلطة ويُنكر الحقيقة، أو يواجه العواقب. النظام يُعيد إنتاج نفسه عبر تحويل كل الخيارات الممكنة إلى أدوات للخضوع.

واخيراً يتحول التلاشي كفعل احتجاج فعندما يشرب الدكتور الماء ويتلاشى أمام الكاميرات، يُقدم الفيلم لحظة تدمج بين العبثية والمقاومة. التلاشي هنا ليس مجرد حدث درامي، بل فعل أخلاقي وجودي. الجسد الذي كان خاضعًا للسلطة يتحرر عبر التلاشي، مُعيدًا تعريف العلاقة بين الإنسان والنظام.

حكيم عبد النعيم - 2 يناير 2025